كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال محمد بن إسحاق لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر بدرا إلا أحب الفدية إلا عمر بن الخطاب، فإنه أشار على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بقتل الأسرى وسعد بن معاذ فإنه قال يا رسول اللّه كان الإثخان في القتل أحبّ إلي من استبقاء الرجال، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه إلا عمر وسعد بن معاذ.
وأخرج مسلم في افراده من حديث عمر بن الخطاب قال ابن عباس لما أسروا الأسارى، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لأبي بكر: «ما ترون في هؤلاء الأسرى؟» فقال أبو بكر: يا رسول اللّه هم بنو العشيرة أي إن تأخذ منهم فدية يكون لنا قوة على الكفار، فعسى اللّه أن يهديهم للإسلام، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «ما ترى يا ابن الخطاب؟»
قال: قلت: لا واللّه يا رسول اللّه ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده، فهوي رسول اللّه ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأبو بكر يبكيان، فقلت: يا رسول اللّه أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكا كما، فقال صلّى اللّه عليه وسلم: «أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من نبي اللّه»، فأنزل اللّه هذه الآية إلى {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} فأحل اللّه الغنيمة لهم.
ذكره الحميدي في مسنده عن عمر بن الخطاب بزيادة فيه، وأخرجه الترمذي بزيادة أيضا وهي قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} الآية 26 من سورة إبراهيم في ج 2 ومثل عيسى قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} الآية 118 من سورة المائدة الآتية، ومثلك يا عمر كمثل نوح {قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا} الآية 26 من سورة نوح في ج 2، ومثلك يا عبد اللّه بن رواح كمثل موسى {قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ}» الآية 88 من سورة يونس ج 2 وذلك لأنه قال حينما استشاره الرسول صلّى اللّه عليه وسلم في أسرى بدر قال يا رسول اللّه انظر واديا كثير الحطب فادخلهم فيه ثم اضرم عليهم نارا.
ولا دليل في هذا الآية على عدم عصمة الأنبياء كما قاله بعض العلماء، لأن الأنبياء معصومون من الخطأ، وما فعله حضرة الرسول من أخذ الفداء مطلق اجتهاد في حد الإثخان لأنه قتل يوم بدر سبعون وأسر سبعون من عظماء المشركين، وكان هذا بالنسبة لنظر الأصحاب الذين أشاروا على حضرة الرسول بأخذ الفداء وبالنسبة لذلك الزم والعدوّ المنازل جدير بأن يسمى اثخانا، لأن الإثخان ليس إهلاك من في الأرض في يقينهم، فكان قبولهم الفداء اجتهادا منهم بأن ذلك كاف لإيقاع الرهبة الأعداء، والمجتهد لا يؤاخذ باجتهاده لأنه قد يخطئ ويصيب، وأجمعت الأمة: أن الاجتهاد لا ينقض بمثله، فلم ير رسول اللّه ترجيح اجتهاد عمر وأصحابه على رأى أبي بكر وأصحابه، لأنه لم يقدم على ما فعله من أخذ الفداء استبدادا بل عن روى وتدبر.
ولهذا لم يؤاخذهم اللّه تعالى الذي أخبرهم بأن ما فعلوه بالمشركين لا يعد إثما كما يستفاد من الآية، فلم يبق لأحد إلا أن يقول أنه بالنسبة لذلك الزمن ولعددهم يسمى إثخانا ابدا، وقول اللّه هو الفعل الحق على أن الأمر بالقتل كان مختصا بالأصحاب لإجماع المسلمين على أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم نفسه لم يؤمر بمباشرة الجهاد أي القتل إلى أن نزلت آية النساء، وهي قوله تعالى: {فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} الآية 84 الآتية، ولكنه ساوى نفسه مع أصحابه، ولم يفضلها عليهم ليقوى يقينهم وتزداد شكيمتهم قوة، فإذا كان ما وقع فيه شبهة ذنب فهو من الأصحاب لا منه صلّى اللّه عليه وسلم، مع أن أخذ الفداء لم يكن حراما، والآية لا تدل على التحريم، إذ لو كان حراما لمنعهم اللّه من أخذه ولردوه لأربابه.
وأما بكاء النبي صلّى اللّه عليه وسلم فكان إشفاقا من نزول العذاب على أصحابه لاشتغالهم بالأسر وترك القتل، بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «عرض علي عذابهم». إلخ الحديث المتقدم، ولو كان مرادا لقال عرض علي العذاب، ولكان سياق خطاب الآية منصرفا إليه وحده، ولهذا لما تبين لهم أن اجتهادهم ليس بمحله وأن ما فعلوه لا يعد إثخانا عند اللّه ندموا على ما وقع منهم وخافوا من تأنيب اللّه إياهم، فصاروا يبكون، وإنما لم يرد اللّه أخذ الفداء لأن العرب إذا رأوا جواز الفداء عند محمد وأصحابه يسهل عليهم الإقدام على حريه ثانيا وثالثا إذ لا قيمة للمال عندهم في مثل هذه المواطن، وحتى الآن أمر العرب على هذا ومنه ان من أهالي دير الزور السيد جمعة الفارس جاء إليه جماعة من عشيرته فطلبوا منه نصف مجيدي، فقال لما ذا؟ قالوا قتلنا رجلا ونريد أن نؤديه، فأصاب كل رجل نصف مجيدي، فأعطاهم وقال لهم إذا كان من تقتلونه يصيب الرجل منا نصف مجيدي من ديته وتخلصون من دمه فاقتلوا كل يوم رجلا وتعالوا خذوا مني ما يصيني عن دمه واللّه يريد قمع دابرهم وأضعاف الخوف في قلوبهم، لأنهم إذا علموا أن الفداء لا يقبل وليس هناك إلا الذبح خافوا وأحجموا عن القتل والقتال، وذلوا فينقادوا للإسلام قسرا، وهذا هو المراد من قتالهم، وإلا لهان عليهم الفداء وحرص بعضهم بعضا على القتل كما وقع من هذا الديري بعد ألف وثلاثمائة وست وخمسين سنة أو أكثر على حادثة بدر هذه، واللّه أعلم بما يصلح لعباده.
قال تعالى مجيزا لهم أخذ الفداء المذكور ولو كان سابقا لأوانه لأن القصد من عدم أخذه ما ذكر أعلاه: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا} لأنكم حزتموه بكسب أيديكم وبذل أموالكم ونفوسكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} من أن تقدموا مرة ثانية على عمل شيء قبل أن يعهد لكم فيه من قبل الله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لكم ما تقدم فيما استبديتم به من أخذ الفداء {رَحِيمٌ (69)} بكم إذا عفا عنكم ولم يؤاخذكم به، لأنه كان مبلغ علمكم ونتيجة اجتهادكم وجامعة شئونكم.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى} الذين قبلتم منهم الفداء {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} من الإيمان به والتصديق لرسوله وكتابه {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} من الفداء الذي فديتم به أنفسكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما سلف منكم إلى لحظة إيمانكم {وَاللَّهُ غَفُورٌ} لمن تاب مهما كان عليه من الكفر {رَحِيمٌ (70)} بجميع عباده يريد لهم الخير والرشد ويمهلهم ليرجعوا إليه، فمتى رجعوا إليه عن يقين وإخلاص قبلهم على ما كان منهم، وعفا عنهم.
هذا ويوجد في القرآن اثنتا عشر آية مصدرة بـ {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ} هذه والتي قبلها عدد 65، 64 والآية 71 من سورة التوبة الآتية، وفي الأحزاب 5 وواحدة في كل من سورة الممتحنة، والطلاق، والتحريم الآتيات.
وقد نزلت هذه الآية في أسرى بدر الذين منهم العباس بن عبد المطلب، إذ أخرج معه عشرين اوقية من الذهب ليطعم بها قومه كسائر رؤساء قريش كما أشرنا إليه في الآية 37 المارة، وقد صادفت نوبة إطعامه يوم الهزيمة فأسر ولم يطعم منها شيئا، فأخذوها منه مع جملة ما أخذوه من غيره، وكان كلم حضرة الرسول بأن يحسبها من الفداء فلم يفعل، لأنها صارت غنيمة كبقية الأموال والمعدات التي آلت إليهم بسبب غلبهم عليهم، وكذلك الأمتعة والألبسة وغيرها، وقال له إن شيئا تستعين به علينا لا نتركه لك، وكلفه فداء ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال يا محمد تريد تتركني أتكفف قريشا؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلم أين الذهب الذي دفنته أم الفضل وقلت لها حين خروجك من مكة لا أدري ما يصيبني، فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد اللّه وعبيد اللّه بني الفضل وقثم.
قال ما يدريك يا ابن أخي؟ قال أخبرني ربي، قال أشهد أنك لصادق وأشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنك عبده ورسوله، واللّه لم يطلع على هذا أحد إلا اللّه وأنا وأم الفضل، وأمر ابني أخيه المذكورين، فأسلما، ويرحم اللّه الأبوصيري إذ يقول:
وإذا سخر اللّه سعيدا ** لأناس فإنهم سعداء

قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ} هؤلاء الأسرى يا سيد الرسل بعد ما مننت عليهم وأعتقتهم من القتل ولم يوف بعضهم بما تعهد به من الفداء {فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} أن يخونوك فإنهم كفروا نعمته وكذبوا رسوله {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أن يخونوك ولم يوفوا بما وعدوك به من بقية الفداء، إذ ليس هذا بشيء عندهم بالنسبة لموقفهم من الله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما في صدورهم {حَكِيمٌ} [71] فيما يفعل بهم.
هذا آخر ما نزل في حادثة بدر في هذه السورة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ابتغاء مرضاته {وَالَّذِينَ آمَنُوا} الرسول وأصحابه المهاجرين وأسكنوهم في منازلهم وساووهم بأنفسهم {وَنَصَرُوا} الرسول وأصحابه في حادثة بدر وغيرها على أعداء اللّه وهم الأنصار من الأوس والخزرج {أُولئِكَ} المتصفون بهذه الصفات الحميدة والأخلاق المجيدة {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} في المعونة والنصرة والمودة والولاية، حتى أنهم يرث بعضهم بعضا دون أقاربهم الكفار.
ومن هنا أخذ منع الإرث عند اختلاف الدين والدار.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} لأنهم مقيمون في مكة وأنتم في المدينة، فلا تعاون ولا تناصر ولا توارث بينكم وبينهم، ويستمر الأمر كذلك {حَتَّى يُهاجِرُوا} فيكون ذلك كله بينكم وبينهم {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ} أولئك الذين في مكة {فِي الدِّينِ} واستغاثوا بكم من أجله {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} واجب وتلزمكم معاونتهم ليتخلصوا من براثن الكفر فتقاتلوا الكافرين معهم لتلك الغاية.
وهذا فرض عليكم في كل حال {إِلَّا} إذا طلبوا معاونتكم {عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} وعهد بعد المقاتلة فليس لكم نصرتهم وإعانتهم، لأن الوفاء بالعهد واجب ولا بترك الواجب لأجل واجب مثله {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)} لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم.
وفي هذه الآية تحذير عن تعدي حد الشرع، ونهي عن تجاوز حدود اللّه، وأمر بمحافظة العهود، ولزوم مراقبة أوامر اللّه، لأن البصير هو المطلع على خفايا الأمور ووقائعها المحيط علمه بكل شيء.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} فلا توالوهم ولا تتولوهم وتباعدوا عنهم أيها المؤمنون، لأن نصرتكم إليهم يكون تقوية لهم وعزة لشأنهم، وقد أمرتم بإضعافهم وإذلالهم.
وهذه الآية تفيد ثبوت ولاية الكافرين بعضهم لبعض، وتوارثهم بينهم، وفيما نهي عن معونتهم ونصرتهم، لأنها خبر بمعنى الإنشاء، يؤيد هذا قوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} الذي أمرتم به من تعاون المؤمنين ومقاطعة الكافرين وخذلانهم {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ} [73] بينكم، لأن المسلمين إذا لم يكونوا يدا واحدة على عدوهم في كل أمورهم الحسية والمعنوية ظهرت أعداؤهم عليهم، وتفرقت كلمتهم، ووهنت قوتهم، وقد ينشأ من هذا اتفاق كلمة المشركين، وقوة شكيتهم، وتحديهم للمسلمين، لأن الفتنة هي قوة الكافر والفساد ضعف المسلمين، ولهذا البحث صلة في الآيات 20، 21 و64، 70 و72، 74 من سورة التوبة الآتية.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} لأنهم بذلوا أموالهم وأنفسهم في طاعة اللّه ورسوله وهؤلاء {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} عظيمة لذنوبهم مهما كانت كثيرة وكبيرة {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} في جنات النعيم، ولا يعد هذا تكرارا لأن الآية الأولى ذكر فيها حكم ولايتهم بعضهم لبعض كما ذكر بعدها ولاية الكفرة بعضهم لبعض، وفي هذه ذكر ما من اللّه به عليهم من فضله وخيره، على أن إعادة الشيء مرة بعد أخرى تدل على مزيد الاهتمام به والتعظيم لشأنه وعلو شرفه وإمكان مكانته وتمكن العناية به.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ} الهجرة الأولى ولحقوا بكم بعد الذين سبقوهم إليها {وَهاجَرُوا} بعدهم {وَجاهَدُوا مَعَكُمْ} بأموالهم وأنفسهم {فَأُولئِكَ مِنْكُمْ} وأنتم منهم إلا أنهم لم يبلغوا درجة المهاجرين الأولين، لأنهم عند اللّه أعظم مرتبة وقدرا وأكثر تفاوتا وأجرا، ولو لم يكن ذلك لما صح الإلحاق بهم {وَأُولُوا الْأَرْحامِ} القرابات البعيدة {بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ} وحكمه من الميراث وغيره إذا كانوا على دين واحد ودار واحدة، وإلا لا توارث بينهم كما مر آنفا {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} لا يعزب عن علمه شيء، وقد تمسك أبو حنيفة رضي اللّه عنه في هذه الآية في أحكام توريث ذوي الأرحام، وقال الشافعي رضي اللّه عنه إن هذه الآية مقيدة لآية النساء المفصلة للإرث.
وسنأتي على ما يتعلق في الآيتين 117 وما بعدهما منها على هذا إن شاء اللّه.
وإن معنى كتاب اللّه هو حكمه الذي بينه فيها، ولقائل أن يقول كيف تصح الإشارة إلى آية هي متأخرة عنها؟
فيقال انتصارا للإمام الشافعي الموجه إليه هذا الاعتراض وهو من عرفت، إنما صحت الإشارة إليه لا بالنسبة لترتيب نزول القرآن، بل بالنظر لترتيب القرآن الموجود في المصاحف الموافق لما هو في علم اللّه ولوحه، ومناسبة هذه السورة لما قبلها بحسب النزول ظاهر، لأن الذين يشملهم قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} إلخ، منهم الذين سألوا حضرة الرسول عن تقسيم الأنفال وحلتها وحرمتها، كما أن مناسبتها لما بعدها صريح، لأن الذي وفق هؤلاء المؤمنين للتعاون والتناصر والتآخي بينهم هو اللّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم المصدرة به السورة التي بعدها، وهكذا إذا دققت وجدت بين كل سورة وما بعدها وما قبلها مناسبة.
هذا واللّه أعلم، وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. اهـ.